![]() |
ياسر يونس – شاعر بين ثلاث لغات، وجسر بين حضارتين: حين تتحول الترجمة إلى فعل حبٍّ إنساني |
في عالمٍ تتقاطع فيه اللغات وتتمازج فيه الثقافات، يبرز ياسر يونس بوصفه حالةً أدبيةً نادرة؛ شاعراً ومترجماً مصرياً سويسرياً، جمع بين دفء الشرق ودقة الغرب، وبين إيقاع القصيدة العربية وروح الشعر الفرنسي والشعر الإنجليزي الحديثة. هو ليس مجرد كاتبٍ يعبُر الحدود، بل هو من جعل الكلمة نفسها جسراً بين العوالم.
من الإسكندرية إلى جنيف… سيرةٌ تعانق الثقافات
وُلد ياسر يونس في مدينة الإسكندرية في 16 ديسمبر 1969، المدينة التي علّمته أن البحر يشبه اللغة — لا قرار له ولا انغلاق. تخرّج في كلية الآداب بجامعة الإسكندرية عام 1991، قسم اللغة العربية واللغات الشرقية، قبل أن يواصل دراساته العليا في الإدارة في المملكة المتحدة والصحة العامة في جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة.
عام 1995، حمل حلمه وغادر إلى سويسرا، حيث سيعيش تجربة الاغتراب بمعناها الإبداعي لا الجغرافي، حاملاً معه هوية مزدوجة جعلته يرى العالم من عينين؛ عربيةٍ تُحبّ، وغربيةٍ تُحلّل.
هو عضو اتحاد كتاب مصر منذ عام 1995، وعضو في حزب الوسط السويسري، ما يعكس اندماجه الحقيقي في الحياة الثقافية والسياسية بين ضفّتين: ضفة النيل وضفة ليمان.
العمل والرسالة: من الأمم المتحدة إلى عوالم الشعر
عمل يونس مترجماً في منظمات الأمم المتحدة، وتولى رئاسة قسم الترجمة العربية في منظمة الصحة العالمية بجنيف، قبل أن يدرّس الترجمة الأدبية في كلية الترجمة هناك. هذه التجربة لم تكن مجرد وظيفة، بل مختبراً إنسانياً صقل حسّه اللغوي ومكّنه من رؤية الترجمة كفعل إبداعٍ لا نقل.
بعد تقاعده، قرر أن يتفرغ لما اعتبره “رسالته الأبدية”: الكتابة. منذ ذلك الحين، أصبح الأدب محور حياته، فجمع بين الإبداع الشعري، والفكر النقدي، والترجمة الأدبية التي تمزج بين بودلير والمتنبي، وبين الشرق والغرب.
إبداع شعري متجدد
أصدر ياسر يونس على مدى ثلاثة عقود أعمالاً تمثل مراحل نضجه الأدبي والروحي، منها:
- ديوان «أصداء حائرة»(1993)
- ديوان «رسالة إلى امرأة»(1995)
- ديوان «ليالي شهرزاد» (2001)
- ديوان «الكل يصفق للسلطان» (2003)
- ديوان «لا تُعارِضْ» (2007)
- ديوان «صليب باخوس العاشق» (2022)
- الأعمال الشعرية (1993-2023)
- ديوان «قَصائدُ لَهُنَّ» (2024)
في هذه الأعمال، تتجاور الفلسفة مع الغزل، والهمّ الإنساني مع الجمال الحسي، في توازنٍ نادر يعبّر عن شاعرٍ يرى في الحبّ مقاومة، وفي الجمال خلاصاً.
الترجمة كجسر إنساني
ترجمات يونس، وخاصة لـأزهار الشر لبودلير، لا تُقرأ كترجمةٍ حرفية، بل كتجربة شعرية موازية. فهو يعيد خلق النص بروح عربية دون أن يفقد نكهته الفرنسية. كما أصدر أعمالاً مثل:
- ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي شارل بودلير (ثلاث طبعات: 1995، 2022، 2025)
- زهور من بساتين الشعر الفرنسي (2024)
- مختارات من قصائد العشق الفرنسي (2025)
- ترجمة مختارات من قصائد اللورد بايرون وبيرسي شيلي (قيد الطبع)
ترجماته تُظهر كيف يمكن للشعر أن يكون لغةً كونية، لا يعرف حدوداً بين الشرق والغرب، بين العربي واللاتيني، بل بين الإنسان والإنسان
في شعره… القلب يتكلم والعقل يترجم
شعر يونس يتميز بتنوعه الثيمي، لكنه يدور حول محاور أساسية: الحب والغزل بأبعاده الحسية والعاطفية، النقد السياسي للاستبداد، النقد الاجتماعي للإرهاب والجهل، والتأملات الفلسفية في الوجود والوهم. كمترجم، يدمج يونس عناصر من الشعر الفرنسي الرمزي، مثل الجمال المختلط بالشر في أعمال بودلير، مع الإيقاع العربي التقليدي. في محاضراته، يؤكد يونس على العلاقة بين الشعر والفنون التشكيلية كعملية إبداعية متكاملة، حيث يرى الشعر جسراً ثقافياً يربط بين الشرق والغرب، مستلهماً من تجاربه في منظمة الصحة العالمية وانتمائه لحزب الوسط السويسري.
الغزل والحب: بين العاطفة الصريحة والحسية الواقعية
في ديوان "قصائد لهن" (2024)، الذي يجمع مختارات غزلية على مدى ثلاثين عاماً، مصحوبة بلوحات الفنانة المغربية شمس صبحاني، يبرز يونس كشاعر يحتفل بالحب بطريقة مباشرة وصريحة، مستلهماً من الرومانسية الفرنسية لكنه يضيف لمسة واقعية تعترف بالتناقضات العاطفية. قصيدة "كلمات امرأة صريحة" مثال بارز، حيث تتحدث المرأة بصوتها الخاص، رافضة الوقوع في فخ الرغبة العابرة:
تنظر لي والشوق في
عينيكَ نارٌ موقدَهْ
تشعل فيكَ رغبةً
جامحةً مُطَّردهْ
وكل ماضيكَ الذي
تريد أن تجددهْ
يشهد أن ما تقول
قصةٌ مُرَدَّدَهْ
سمعتُها من كل أنثى
صدقتْ من رددهْ
تبدأ ثم تنتهي
بامرأةٍ مشردهْ
ويرسل الحكيم فيها
للسماء هُدهدهْ
والمرء يزهد الذي
يريدهُ إن وجدهْ
وكل عمْركَ الذي
ضيعتَهُ في العربدهْ
لم يُبقِ منهُ الدهر لي
شيئًا لكي أُبدده
تريد جامًا مُترعًا
وامرأةً مُجرَّدهْ
وليلةً دافئةً
في حجرةٍ منفردهْ
حتى إذا ما شهد
الصباح فيها مَوْلِدهْ
يذهب كل واحدٍ
في سكةٍ محددهْ
إنْ أجَّ فيَّ الشوق لن
تقدر أن تُبرِّدهْ
فكل أحلامي غدتْ
في جسدي مقيدهْ
مهما يكن لن أرتمي
على يديكَ مُجهدهْ
بجسدٍ مرتعشٍ
وشفةٍ مرتعدهْ
وجبهةٍ باردةٍ
ومهجةٍ مُتقدهْ
فأنت لن تفتح لي
أبواب قلبي الموصدهْ
ولن تطيق أن ترى
أحزانهُ المُخلَّدهْ
ولن ترى عينيَ في
أمسيةٍ مُسهَّدهْ
أرجوكَ لا تعبث بآمالي
ودعها مُخمدهْ
* * *
هذه القصيدة تعتمد على الإيقاع المنساب والقافية المتكررة (مثل "موقدَهْ" و"مُطَّردهْ") لتعزيز الشعور بالتدفق العاطفي، لكنها تكشف عن رفض فلسفي للحب كوهم متكرر. الاستعارات الحسية مثل "نار موقدة" للشوق، و"أبواب قلبي الموصده" للأسرار العاطفية، تجمع بين الجمال والألم، مستلهمة من "أزهار الشر" لبودلير الذي ترجمه يونس. النبرة الصريحة تعكس نزعة نسوية، حيث ترفض المرأة دور الضحية، مما يضيف عمقاً نفسياً يبرز التناقض بين الرغبة والواقع.
في قصائد غزلية أخرى، مثل تلك في "ليالي شهرزاد" (2001)، يستكشف يونس الحب كحكاية أسطورية، لكنه ينتقد الوهم العاطفي، مما يربط الغزل بالفلسفة الوجودية.
النقد السياسي: تصوير الاستبداد والقمع
يونس يستخدم الشعر لنقد السلطة، مستلهماً من تجاربه المزدوجة الجنسية. في قصيدة "مولاي الرئيس"، يرسم صورة مجتمع مقموع:
مَوْلايَ رجالُك في الطُّرقاتْ
الرموز مثل "السيف المسلط" ترمز للقمع، والتكرار يعزز اليأس. هذا النقد يعكس رؤية فلسفية للسلطة كوهم يدمر الإنسانية، كما يبرز ناصف في كتابه النقدي.
النقد الاجتماعي والديني: مواجهة الجهل والإرهاب
في "الإرهابي الدجال" (2015)، ينتقد يونس الإرهاب المتستر بالدين:
أعرفهُ أفزع من خِلْقَتِهْ
أراه لا أخطئ في هيئتِهْ
تدلُّني عليهِ أفعالُهُ
لا ما رواهُ الناسُ عن سيرتِهْ
أعرف ما يُخفيهِ في قلبهِ
لا كُلَّ ما يُبديهِ من طيبتِهْ
التناقضات تكشف الخداع، مع استعارات مثل "الدجال" للزيف.وفي "وهم الخازوق" من "صليب باخوس العاشق" (2022)، ينتقد الجهل الثقافي:
الغافلُ الجاهلُ ما أحمَقَهْ
يعيش في الوهمِ الذي صدَّقَهْ
أفكارهُ باليةٌ قد عَفَتْ
وروحهُ حبيسةٌ موثقَهْ
يعيش في الأوهامِ مستغرقًا
وفي دهاليز الرؤى الضيِّقهْ
يظن أن الرب في صفهِ
ويملك الحقيقةَ المُطْلَقَهْ
يؤجج الإخفاقُ أحقادهُ
وحِقدُهُ بنارِهِ أحرقَهْ
يسير فوق الأرضِ مستكبرًا
يملؤهُ غرورهُ والثقَهْ
ويستَحِلُّ النهبَ والقتلَ كي
يفرض حَدُّ سيفهِ مَنْطِقَهْ
وكلما أمعن في جهلهِ
يظن ما خالفهُ هرطقَهْ
يُصدِّق الشيءَ وأضدادَهُ
وجهلُهُ ظلامهُ طَوَّقَهْ
هذا الذي جَنَتْ عليهِ بهِ
ثقافة الخازوقِ والخوزقَهْ
والعقلُ والتفكيرُ في عُرفهِ
زندقةٌ ما بَعدها زندقَهْ
وكلما جَمَّل أفعالهُ
يفضِحهُ الدمُ الذي أهرقَهْ
يغفل عن آثارِ أعمالهِ
ويجهل المخاطرَ المُحدِقَهْ
ولا يرى الطوفانَ مِن حولِهِ
ولا يرى السيلَ الذي أغرقَهْ
يعيش مسجونًا ولكنهُ
يحسب أن سِجنهُ أَعْتقَهْ
وكلما حلَّتْ بهِ نكبةٌ
أَحْكَمَ حول ذاتهِ شرنقَهْ
يجادل الناسَ وأفعالُهُ
قد أفقَدَتْ كلامهُ رونقَهْ
وكلما حاصرهُ خَصمُهُ
يحفر في خيالهِ خَندقَهْ
يؤمِن بالكتابِ لكنهُ
يُجِلُّ مَن بسيفِهِ مزَّقَهْ
قد حَوَّل الأرض إلى غابةٍ
وحَوَّل الكَوْن إلى مَحْرَقَهْ
ويجلب الخرابَ أنَّى مضى
ويزرع الشِّقاقَ والتفرِقَهْ
ومن قديمٍ وهو في محنةٍ
أحزانهُ هائلةٌ مُطْبِقَهْ
ما بينها وبين آمالهِ
يُصارِع السِّندان والمِطرقَهْ
* * *
هذه القصيدة تستخدم "الخازوق" كرمز للثقافة القمعية التي تحول الإنسان إلى سجين وهمي، مع تكرار الهيكل لتعزيز الشعور بالدوران في الجهل. فلسفياً، تنتقد النزعة الدينية المتطرفة كزندقة ضد العقل، مما يربط بين النقد الاجتماعي والتأمل الوجودي.
النزعة الفلسفية: الوهم والوجود
مثلما ذكره الناقد المصري أ. سامي ناصف (المعنون القصيدة القصة والنزعة الفلسفية في شعر ياسر يونس) فإن شعر ياسر يونس، يبرز شعر يونس النزعة الفلسفية في مواجهة الوهم، مستلهماً من بودلير وفولتير. في ترجماته مثل "زهور من بساتين الشعر الفرنسي" (2024)، يربط بين الشعر والفن كعملية إبداعية تجمع الجمال والشر، كما في محاضراته عن التكامل بين الشعر والتشكيلي.
الأسلوب الشعري والأدوات الأدبية
- الإيقاع والقافية: بحر خليلي مع قافية متدفقة، تعزز العمق العاطفي.
- الاستعارات والرموز: غنية بالصور (نار الشوق، خازوق الجهل)، تجمع بين الحسي والفلسفي.
- التنوع الثقافي: دمج عربي-فرنسي- إنجليزي، كما في ترجماته.
- النبرة: تتراوح بين الرومانسية والسخرية، مع نزعة إنسانية.
ياسر يونس في معرض نورشوبينغ للكتاب: تكريمٌ يجسد عبور الثقافة بين الشرق والغرب
في أجواء احتفالية جمعت بين دفء الشرق وانفتاح الشمال، شارك الشاعر والمترجم المصري السويسري ياسر يونس في النسخة الثانية من معرض نورشوبينغ للكتاب، الذي نظّمه المرصد الآشوري لحقوق الإنسان بالتعاون مع المكتبة العامة في مدينة نورشوبينغ خلال شهر سبتمبر 2025.
قدّم يونس خلال المعرض مجموعة من إصداراته الحديثة، منها ديوانه «قصائد لهنّ» وترجماته الشعرية الجديدة «زهور من حدائق الشعر الفرنسي» و*«مختارات من قصائد العشق الفرنسي»*. كما ألقى عدداً من القصائد التي جسدت رؤيته الإنسانية الداعية إلى الحبّ، الحوار، والعدالة الجمالية في العالم.
في ختام الأمسية الأدبية، كرّمه المدير التنفيذي للمرصد الآشوري لحقوق الإنسان الأستاذ جميل دياربكرلي، بحضور نخبة من الكتّاب والفنانين والإعلاميين العرب والسويديين. وجاء التكريم تقديراً لإسهامه في مدّ الجسور الثقافية بين الشرق والغرب، ولمسيرته الأدبية التي تجمع بين الشعر، الترجمة، والفكر الفلسفي.
وفي كلمته، عبّر ياسر يونس عن امتنانه لهذا التكريم، قائلاً:
“إن لقاء الثقافات ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة إنسانية. حين يتحدث الشرق بلغة الجمال، يصغي إليه الغرب بقلبه.”
كانت مشاركته في معرض نورشوبينغ أكثر من مجرد حضورٍ شعري؛ كانت تجسيداً لرسالته التي تؤمن أن الأدب الحقيقي لا يعرف الحدود، وأن الكلمة يمكن أن تكون جواز السفر الأجمل نحو إنسانيتنا المشتركة.
كما شارك في مؤتمرات ومهرجانات عربية ودولية، منها مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الثقافية في باريس (2006) وجامعة المبدعين المغاربة (2024)، وظهر في أنطولوجيات أدبية عدة أبرزها قصائد ضد القبح ودع الزهور تتفتح. كما ورد ياسر يونس ضمن موسوعة الشعر المصري الفصيح (1953-2023) للموثقة المغربية فاطمة بوحراكة.
بين الفلسفة والحب… نزعة نحو الجمال الإنساني
يكتب ياسر يونس الشعر كما يكتب الفيلسوف تأملاته — بالحبر نفسه الذي ينزف من الوعي. في قصيدته وهم الخازوق من ديوان صليب باخوس العاشق، ينتقد الجهل بوصفه “سجنًا يتوهم صاحبه أنه حرّ”، في صرخة إنسانية ترفض التطرف وتقدّس العقل.
إنه شاعر يؤمن أن الكلمة لا تغيّر العالم فحسب، بل تفضحه وتعيد تشكيله على مهل.
خاتمة: شاعر الضوء المهاجر
ياسر يونس ليس شاعرًا في المنفى، بل شاعرًا جعل من المنفى وطنًا آخر للكلمة.
لغته مزيج من البحر الإسكندري والثلج السويسري، من دفء الصحراء ورصانة الجبال.
في كل نصٍّ يكتبه، تشعر أن الشرق يهمس في أذن الغرب، وأن القصيدة صارت سفارة للإنسانية.
“الشعر عندي ليس قولًا في الحب أو السياسة، بل محاولة لفهم الحياة قبل أن تفوتنا.”
من هنا، تظل تجربة ياسر يونس علامة مضيئة في الشعر العربي المعاصر — تجربة تتجاوز اللغة لتصل إلى ما بعدها: جوهر الإنسان نفسه.

.png)