![]() |
صبري يوسف – شاعر الاغتراب والإنسانية: حين يتحوّل الحنين إلى نصّ يسكن العالم |
بقلم: يزن سعد – المدير العام لشبكة كروان الإعلامية
في زمنٍ تتقلّص فيه المسافات المكانية وتزداد فيه الفجوات الإنسانية، يظلّ الأدب أحد أكثر الأصوات قدرةً على جمع الشظايا وتوحيدها في سردٍ إنسانيّ مشترك. من بين هذه الأصوات، يبرز اسم صبري يوسف — الشاعر، الأديب، والتشكيلي السوري المقيم في السويد — كأحد أبرز وجوه الأدب المشرقي في المهجر، وكمثالٍ حيّ على أن المنفى قد ينتج أجمل أشكال الانتماء.
من الحسكة إلى ستوكهولم... رحلة الروح والكلمة
وُلد صبري يوسف عام 1956 في مدينة المالكية (ديريك) التابعة لمحافظة الحسكة في شمال سوريا، في بيئةٍ متعدّدة اللغات والثقافات، حيث تمتزج العربية بالكردية والسريانية والآشورية، ما كوّن لديه منذ الطفولة حسّاً بالانتماء المركّب والهوية المفتوحة.
درس الفلسفة وتخصص في علم الاجتماع في جامعة دمشق وتخرج عام 1987، وبدأ مبكراً رحلته مع الكلمة، قبل أن يهاجر إلى السويد ليستقر في ستوكهولم، حيث أسّس عام 1998 دار نشر "صبري يوسف" التي نشرت عشرات الإصدارات له ولأدباء عرب في المهجر.
| Norrköpings Bokmässa - معرض نورشوبينغ للكتاب |
الكتابة كتنفّس للحياة
في إحدى مقابلاته قال يوسف:
"الكتابة هي شهيقي في الحياة، لن أعتزلها حتى آخر رمق من عمري."
هذه العبارة تُلخّص فلسفة الكتابة لديه: الكلمة ليست مجرّد أداةٍ للتعبير، بل وسيلة للبقاء، ونافذة للهواء في وجه الغربة. لذلك جاءت نصوصه لتحتضن الألم كما تحتضن الضوء، ولتكون الشعر فيها امتداداً للعاطفة الإنسانية الصافية، لا تجميلاً للوجع.
غزارة الإنتاج وثراء التجربة
يُعدّ صبري يوسف من أكثر الأدباء السوريين إنتاجاً في المهجر، إذ أصدر ما يزيد عن 120 كتاباً بين الرواية، الشعر، القصة، النقد الأدبي، المقالة الفكرية، المسرح الشعري، وأدب الرسائل.
من أبرز أعماله:
- احتراق حافات الروح (قصص قصيرة – 1997)
- روحي… شراع مسافر (شعر بالعربية والسويدية)
- أنشودة الحياة (سلسلة شعرية متعددة الأجزاء)
- السلام أعمق من البحار
- الإنسان – الأرض، جنون الصولجان
من أبرز رواياته:
- تجلِّيات في رحاب الذّات، عمان – الأردن، دار غيدار للنشر والتَّوزيع 2019
- قهقهات متأصِّلة في الذَّاكرة، عمان - الأردن، دار غيدار للنشر والتَّوزيع 2019
- إلقاء القبض علي حاسر الرّأس، عمان - الأردن، دار غيدار للنشر والتَّوزيع 2019
- غناء من ألقِ الخلود، ملك الأغنية السِّريانيّة حبيب موسى، ستوكهولم 2025
يمتاز أسلوبه بالجمع بين الوجداني والفلسفي، حيث يكتب عن الحبّ والحنين والاغتراب، لكنه في الوقت ذاته يحاور الوجود والعدالة والحرية. لغته شعرية شفّافة، تتكئ على الصور الكونية والرمزية، وتستمدّ إيقاعها من صوتٍ داخليّ صادق.
| Norrköpings Bokmässa - معرض نورشوبينغ للكتاب |
بين الشعر والفنّ التشكيلي
لا يقتصر إبداع صبري يوسف على الكلمة وحدها، فهو فنان تشكيلي أيضاً، يرى في اللون امتداداً للشعر، وفي اللوحة قصيدةً تُرسم. وقد قدّم في عددٍ من أعماله توليفاتٍ فنية تجمع بين النصّ الشعري والتعبير البصري، كما عُرضت أعماله في مجلات ومعارض فنية أدبية.
صوت الإنسان في المنفى
يعيش صبري يوسف الغربة لا كفصلٍ من العزلة، بل كحالة إبداعية دائمة. يكتب عن المنفى بوصفه "مرآة الروح"، وعن الحنين بوصفه طريق العودة الرمزية إلى الذات.
في أحد نصوصه يقول:
"كنتُ في الطابق السابع من سماوات غربتي، وحيداً مع دمعتي مع خيوط الحنين، فجأةً هجمتُ على قلمي ثم كتبتُ ما أملته عليّ ارتعاشات مفاصلي."
هذه السطور تُلخّص التجربة الوجودية للمنفيّ الذي حوّل الألم إلى لغة، والحنين إلى فنّ.
قيم إنسانية تتجاوز الحدود
من يقرأ أعمال صبري يوسف يلمس نزعة عميقة نحو السلام والمحبة والعدالة. فهو شاعرٌ مؤمنٌ بأن الكلمة يمكن أن تكون فعلاً تغييرياً في وجه القسوة، وأن الأدب مسؤولية أخلاقية بقدر ما هو فنّ.
في مقالاته وكتبه، ينتقد العنف بكل أشكاله، ويدعو إلى ثقافة الحوار والاحترام المتبادل بين الشعوب، مؤكداً أن الأدب المشرقي في المهجر يجب أن يبقى حاملاً لرسالة إنسانية عالمية.
| Norrköpings Bokmässa - معرض نورشوبينغ للكتاب |
تكريم في معرض نورشوبينغ للكتاب
في سبتمبر 2025، استضاف معرض نورشوبينغ للكتاب – النسخة الثانية الأديب صبري يوسف في حفل توقيعٍ خاص لإصداراته الجديدة، وسط حضورٍ واسع من محبي الأدب.
وخلال الحفل، كرّمه الأستاذ جميل دياربكرلي، المدير التنفيذي للمرصد الآشوري لحقوق الإنسان، بدرعٍ وشهادة تقدير باسم إدارة المعرض، تقديراً لمسيرته الأدبية الغنية، مؤكداً أن "أعماله تمثل إضافة نوعية للمكتبة العربية والمشرقية، وتجسيداً لدور الأدب في بناء الجسور بين الشعوب".
صبري يوسف… جسرٌ بين الشرق والغرب
يمثل الأديب صبري يوسف اليوم نموذجاً للأديب المشرقي الذي استطاع أن يحافظ على لغته الأم في قلب المهجر الأوروبي، وأن يجعل من الكتابة جسراً بين ثقافتين. تجربته تؤكد أن الغربة ليست نهاية الانتماء، بل بدايته الجديدة في شكلٍ آخر، وأن الأدب قادر على أن يُعيد تشكيل هوية الإنسان بعيداً عن الجغرافيا والسياسة.
خاتمة: الكلمة وطنٌ لا يُنفى
حين يُسأل صبري يوسف عن الكتابة، يجيب ببساطة وصدق:
"وحدها الكتابة تخفِّف من تخشُّباتِ ضجري، وحدها الكتابة تمنحني ألق العشق، وحدها الكتابة تبدِّدُ من صقيعِ غربتي، وحدها الكتابة تمنحني بهجة الهدوء وخصوبة الرُّوح، وتفتح شهيَّتي على محراب العناقِ، وحدها الكتابة تغمر صباحي شهقة السموِّ، وحدها الكتابة تنقش فوق هلالات الحلمِ حبق التجلّي. لا يهمّني إن عشتُ قروناً، أو بضعة شهور، فالزَّمن مهما طال هو مجرَّد زمن متناثر فوق خميلةِ الحياةِ، وحدُها الكتابة تبقى ساطعة فوقَ مفاصل البقاءِ، وحدها الكتابة تمنحني نكهةَ العشقِ على امتدادِ الكونِ."
يواصل صبري يوسف رحلته بين الحرف والحنين، شاعراً يُشبه الضوء في اتساعه، وسفيراً ثقافياً للمشرق في أقصى الشمال.

.png)